قفزة 15 آب بقلم القيادي عكيد

فقد انقسمت قواتنا إلى عددٍ من الوحدات وانتشروا بين الأهالي في مناطق واسعة، وكانوا يتحرّكون بسريّة، ولم يحظَ العدو بدعم الشعب وكان غريباً عن هذه الأراضي ولا يستطيع السيطرة، لقد خضنا تجربتنا الأولى ضدّ العدو منذ ذلك الوقت".

0

مضى 39 عاماً على قفزة 15 آب التي تحولت بالنسبة للكرد وكردستان ولباقي الشعوب مع مرور الوقت إلى يوم الانبعاث.

ففي الـ 15 من آب عام 1984 بدأ كريلا حركة التحرّر الكردستانيّة في ناحية أروه (دهي) التابعة لسيرت وناحية شمزينان في جولميرك، كفاحاً مسلّحاً ضدّ سياسات الاستعمار والاحتلال والغزو والمجازر والإبادة لدولة الاحتلال التركي. وتردّدت صدى الحملة التي عُرفت بـ “الرصاصة الأولى” في جميع أنحاء كردستان والعالم، وتعزّزت، وأصقله العالم المعرفي بالمعاني سياسيّاً، وفلسفياً، وأيديولوجياً واجتماعياً، واعتبرها أهالي كردستان انبعاثاً جديداً، لذا اُعترف بهذا اليوم كـ “عيد للانبعاث القومي”.

والآن وفي العام الـ 40 لقفزة 15 آب يجري الحديث عن أهميتها وفحواها وتأثيرها، فكيف انطلقت هذه القفزة يا ترى، وكيف تردّد صداها شعبياً؟ يجيب القيادي الباسل معصوم قورقماز (عكيد) الذي قاد هذه القفزة وشارك في عملية أروه على هذه الأسئلة في مذكراته.

وبمناسبة الذكرى السنويّة الـ 39 لقفزة 15 آب، ارتأينا أن ننشر مذكرات القيادي عكيد المنشورة سابقاً في صحيفة سَرخبون.

شتاء 1983

وصلنا إلى ثكناتنا الجديدة بعد مسيرة طويلة وصعبة، بدأ جميع كوادر هذه الثكنات في شتاء 1983 بالعمل الدؤوب من أجل الخط الحزبي سياسياً وعسكريّاً دون اختيار. ونفّذت مرحلة العمل الأخيرة للاستعداد لتولّي المهام في ظروف الشتاء الصعبة، وحقّقت نتائج مهمّة. فقد تمّ وضع المخططات وإصدار التعليمات فيما يتعلّق بالمسائل التنظيميّة والتقنيّة. وبهذه الطريقة جرى تقييم فصل الشتاء الثابت.

 كان شتاءً قارساً تساقطت فيه الثلوج بكثافة، وكان مستوى ارتفاع الثلوج يبلغ المترين أحياناً، وكان الرفاق المجبرين على الخروج إلى الأراضي يواجهون صعوبات كبيرة، فقد اضطّر أحد الرفاق مثلاً إلى السير في الثلج ليومين وكسر الجليد والقيام برحلةٍ شاقة ومتعبة جداً، وبعد وصوله إلينا مرض ولزم الفراش لـ 15 يوماً بالضبط. كان قد تعرّض للبرد كثيراً فأصاب بمرض في معدته وعلى إثر هذا المرض كان يتقيأ كل ما يأكل. كما كانت عيناه قد تضررتا بسبب انعكاس الضوء على الثلج وتذرفان الدموع على الدوام. كما خرجت مجموعة مؤلفة 6 رفاق أيضاً في رحلة تحت المطر وقضوا ليلتهم في منزلٍ منعزلٍ على حافة الجبل، ثمّ خرجوا إلى الطريق مجدداً في اليوم التالي بعد أن أخبرهم صاحب المنزل بأنّ المكان الذي يقصدونه قريب للغاية، لكن بعد وصولهم إلى المكان الذي حدّده لهم صاحب المنزل ذاك، وجدوا عدم وجود أي شيء هناك فأدركوا أنّهم تعرّضوا للخداع، لكن لم يكن باستطاعتهم آنذاك العودة إلى هناك مجدداً فتدبّروا أمرهم بما يملكون من طعامٍ وشراب ليوم أو يومين حتّى وصلوا إلى قريةٍ كان قد دمّرها النظام العراقي، فقضوا ليلتهم هناك وخرجوا إلى الطريق في اليوم الثالث بلا أي مؤنة  أو طعام، وخلال الرحلة يفقد اثنان من الرفاق طاقتهما وتتدهور صحتهما، ثمّ يفقدان بصرهما، فيضطرّ باقي الرفاق إلى حملهما ومواصلة الرحلة، لكنّهم فقدوا طاقتهم جميعاً بحلول الليل وتوقفوا عن المسير، وبدأوا بإطلاق عددٍ من الرصاصات على أمل أن يلاحظهم أحدهم ويهرع لمساعدتهم، وهو ما حدث فعلاً فقد هرع القرويون الذين سمعوا أصوات الرصاص لنجدتهم وأنقذوهم من التجمّد.

نعتقد أنّ هذين المثالين كافيان لإيصال وشرح مدى صعوبة الظروف التي عشناها في فصل الشتاء.  

الخروج إلى الطريق

مع ذوبان الثلوج خلال فصل الربيع، شُرحت للوحدات الأعمال التي سيخوضونها في المناطق التي سيتوجهون إليها، وكان هذا مفيداً جداً لكل وحدةٍ من الوحدات، فقد تسليط الضوء على أسلوب العمل الرئيس، وشكل العمل والاحتياطات الواجب اتّخاذها لمواجهة المخاطر المحتملة، وبهذه الطريقة تعزّز الوعي الفكري للكوادر، وبعد الانتهاء من الاستعدادات النهائيّة، توجّهت المجموعات إلى باكور وهي تحمل على عاتقها مسؤوليات ومهام كبيرة.

وبالتأكيد لم يقف العدو مكتوف اليدين أمام استعداداتنا فقد حشد قواته على الحدود وسعى إلى جرّنا لحرب هناك، ومنع العبور والقضاء على كافة المجموعات، وهذا يدلّ على عدم فهمه لتكتيكاتنا، فقد هيأ نفسه لحرب منظمة. وكان قد سيطر على نقاط استراتيجيّة على حدود باكور وعلى امتداد 100 كم بالإضافة إلى السيطرة على الطرق المهمة. وفي الوقت الذي كان فيه العدو يقوم بهذه الاستعدادات، كانت جميع وحداتنا قد عبرت إلى الداخل وكنا مرتاحين في باشور. 

توغّل العدو إلى باشور على عمق 5 كم

اجتاز العدو الحدود صبيحة الـ 27 من أيار وتوغّل في باشور على عمق 5 كم، واجتمعوا مع القوى المسيطرة هناك وأخبروهم بأنّهم لا يستهدفون قواتهم بل يبحثون عن الآبوجيين، لكنّهم سرعان ما أدركوا ضعفهم وانسحبوا، فقد كان وضع الجنود مأساوياً وكانوا يرتجفون أمام عظمة جبالنا، ولم يتمكّنوا من محاربة الكريلا في تلك الجبال، وقد تأكدوا من عبور قواتنا إلى باكور، فانسحبوا من باشور وبدأوا في المراقبة وتنفيذ العمليات في مناطق باكور.

لقد عبرنا إلى باكور وكان القرويون يتساءلون حولنا بفضول

لأنّنا كنا في انتظار المحتلين فلم نتفاجأ، وبعد أن سحب قواته من باشور، قررنا مع مجموعة من الرفاق التوجّه إلى باكور، وتعرّفنا بالصدفة على مرشدٍ للطريق، فاجتزنا المحتلين والحدود معه ووصلنا إلى قريته، فسمع القرويون بقدومنا، وزارونا بسريّة كبيرة، وسألوا عن الوضع في باشور بفضولٍ كبير وشكوك كثيرة، وقد أجبنا على أسئلتهم بعد تناولنا للطعام الذي جلبوه لنا. حاولنا فهم الاحتلال والنتائج التي تحدّد الطريق، وبالرغم من تأثر العدو بالمحتلين فقد تعاملوا ببرود، وبعد انتهائنا من الحديث قادونا إلى الأماكن السريّة التي جهّزوها لأنفسهم، وكانت هذه الأماكن محميّة حقاً، بقينا هناك ليومين، وبعد حلول الظلام، أخذنا معنا اثنين من شبان القرية وانطلقنا. وبعد أن عبرنا الجبال الصعبة، تسلقنا تلةً في غابة شائكة، ورأينا قاعدةً للعدو، لم تكن القاعدة بعيدة جداً، وبعد أن تفقدنا حولنا بالمنظار، رأينا جسراً لم يسيطر عليه العدو بعد، وقررنا عبور ذلك الجسر.   

نزلنا بسرعة واقتربنا من نقطة الكمين، وتفقد اثنان من الرفاق محيطنا جيداً، وبعد أن أدركنا أنّ المنطقة مكشوفة جداً، ركضنا بدون توقف وتجاوزنا نقطة الخطر، وارتحنا قليلاً لأنّنا مررنا عبر خطين للعدو، استرحنا قليلاً قرب إحدى الينابيع وتناولنا غداءنا هناك، وكان غداءنا آنذاك عبارة عن خبز وجبن، وبعد ذلك دردشنا مع شبان القرية، وفي الوقت الذي كان فيه الاحتلال راسخاً جداً، كان الشيء الوحيد الذي يريدونه هو معاقبة الجواسيس والمخبرين. أرادوا العمل معنا منذ ذلك الوقت، لكنّهم لم يفعلوا بسبب الظروف فناقشناهم قليلاً وأقنعناهم، بعد أن استرحنا قليلاً انطلقنا مجدداً، وعبرنا خلال الأيام اللاحقة صخوراً عالية تسبّب الدوار. وفي النهاية، أنهينا رحلتنا الخطيرة هذه، ووصلنا إلى وجهتنا بمساعدة الأهالي، وكان كلّ من يصادفنا في الطريق يسألنا عن “الحرب” في باشور، فقد اختلطت في رأسهم أفكار الأمل والتشاؤم حول مستقبلهم. فقد كانت ذكريات المجازر التي ارتكبتها الدولة التركيّة حية في ذاكرة المسنين، وكانوا يخشون عودة تلك الأيام. وبشكلٍ عام، رأى الناس أنّ بقاء المنظمة كوحدة هو الضمان الوحيد لحياتهم. 

كنا نخوض تجربتنا الأولى

انتشر نفوذ الاحتلال في باشور منتصف شهر حزيران، وقام الجنود الأتراك بإخلاء الحدود تماماً وحتّى أنّهم أزالوا الحدود التي كانوا يستخدمونها سابقاً أيضاً من الخوف. وسعى بالقوات التي سحبها إلى الداخل محاصرة مناطق عملنا من عدة جهات، كانوا يضطهدون الأهالي في بعض المناطق، وينتهجون سياسة ناعمة في المناطق التي كانوا يتوقعون فيها المقاومة، كانوا يوزعون الملابس والأحذية وحتّى الحلويات على الأطفال، وفي المقابل كانوا يطالبونهم بعدم مساعدة الآبوجيين أو التعاون معهم، وتسليم أسلحتهم والمطلوبين. وعندما لم يتلقوا استجابةً إيجابيّة، بدأوا بتهديد الأهالي وقالوا لهم: “نتواجه مجدداً”.

لم يتأثر عمل وحداتنا بالاحتلال وعملياته، ولمناقشة مفهوم الاحتلال، تناولنا هذا المفهوم وتأثيراته وناقشناه مطولاً خلال اجتماعنا الأسبوعي، وتوصلنا لهذه النتيجة: “نشأ الاحتلال كأحد أساليب الولايات المتحدة الأمريكيّة، لقد خططوا لها معاً، واُستهدفت المنطقة كتهديدٍ واختبار لتدخل القوى المتقدمة، وحدّدت الدولة التركيّة القضاء على حزب العمال الكردستاني كهدف رئيس لها، لكنّها لم تحقّق هدفها هذا، ولم تكن الظروف مناسبة للاستهداف، فقد انقسمت قواتنا إلى عددٍ من الوحدات وانتشروا بين الأهالي في مناطق واسعة، وكانوا يتحرّكون بسريّة، ولم يحظَ العدو بدعم الشعب وكان غريباً عن هذه الأراضي ولا يستطيع السيطرة، لم يكن يستطيع استكشاف المكان أو تفقده حتّى” النتيجة التي توصلنا إليها هي أنّنا خضنا تجربتنا الأولى ضدّ العدو منذ ذلك الوقت. 

بدء الحصول على نتائج الاستكشاف

أدّى تأثير بعض الأحداث الجديدة، إلى سير أعمالنا التنظيميّة بشكلٍ أسرع وبدون انقطاع، كان قد بدأ الحصول على نتائج الاستكشاف، والتغلب على الجهل بالأراضي وتضاريسها تدريجياً، وتحديد النقاط التي تمّ التوصل إليها. ففي المواقع التي وُجدت مناسبةً للقواعد، تمّ التركيز على الأعمال التنظيميّة والتقنيّة. وعندما درسنا خصائص أهالي المنطقة وبنيتهم الاجتماعيّة، أدركنا أنّنا نواجه واقعاً خاصاً جداً. كان الناس والمنتجات وظروف المعيشة مختلفة للغاية، كما كانت الظروف الطبيعيّة أيضاً مختلفة جداً. وقبل كل شيء كان هناك نسيج اجتماعي منظّم. كان نشوء العشائر على القبلية وغلبة الاتحاد القبلي عليها لافتاً، لكن واجب تطبيق الاتحاد لم يكن سارياً كثيراً، كانت قيادة القبائل تكتسب سلطة إدارة القبائل من الانتماء والإخلاص القائم على الخدمة والاحترام. واستندت هذه القيادة على حق النهب والتملك كإحدى خصائص الطبقة الحاكمة، لكن لم تكن هناك صراعات كبيرة جديرة بالذكر بين الشعب والقيادة بعد، وكان الصراع الأكبر هو الثأر بسبب الخلافات على الأرض والنهب والانقسام بين القبائل. لم تتمكّن الجمهوريّة التركيّة من التدخل في البنية الاجتماعيّة والتصرف فيها كثيراً، فلم تستطع إحداث الدمار الذي أحدثته في المناطق الداخليّة، هناك، لذا كان المجتمع مرتبطاً بدينامياته وقيمه الوطنية، وبرزت فيه خصائص الشخص القوي، لم ينقسم الناس أو يتشتتون تحت وطأة الاحتلال، فسبب وحدة القبيلة ودعمها، يشعر الناس بالأمان وتسود الثقة بالنفس، وهذا نابع من تقليد الإنتاج في ظروف الطبيعة القاسية والمقاومة التي لم يستطع الاحتلال القضاء عليها. إنّ اللغة القومية، الثقافة والقيم الوطنية بعيدة كل البعد عن التأثيرات الخارجيّة مما يعكس صورةً بسيطة، وتعليق السلاح على الزي القومي مثلاً، يخلق شخصيةً جديرة بالاحترام.

لفهم الوجود القومي والتوق إلى التحرّر في هذه المنطقة جذور عميقة، إذ كان الشغف والتوق للعشيرة الحرّة يتزايد باستمرار وكانوا يعتبرون أنّ جميع أشكال النضال القومي شرعية. لقد أخذوا على عاتقهم من قبل تحمّل المسؤولية الكبيرة للنضال القائم في باشور كردستان، لقد اختاروا القيام بذلك بدافع الواجب تجاه القومية الكرديّة، لكنّهم كانوا في الوقت ذاته قلقين من تشكيل قوميّة رجعية متعصبة. بعد ذلك، فقدوا أمل التحرّر نظراً لعدم وجود بديل آخر.

على الرغم من أنّ هذه المنظومة التي نواجهها تعطي صورة إيجابيّة بشكل عام، لكنّ لا يتمتّع الأفراد فيها بالإرادة الحرّة، فهم جزء طبيعي من القبيلة، وتسبب هذا في بعض الصعوبات لنا، لذا كان يتحتّم فرض مهمّة تشمل القبيلة بأكملها.

في البداية واجهوا صعوبةً في التعرّف علينا وفهمنا

واجهت القبائل صعوبة في التعرف علينا وفهمنا في البداية، كانوا أكثر ميلاً للنزعة القوميّة الرجعية السائدة في باشور كردستان والتنظيم الزائف. أحدثت هذه القوى تأثيرات سلبية عديدة في المنطقة، لذا كان الناس متحفظون حيال أي قوى سياسيّة تقصد منطقتهم، لم يكن يعتبرونهم قادةً أو محررين، بل مجرد أشخاص هدفهم استغلالهم، وقد تمكّنا من تغيير موقفهم لأنّنا كنّا نعلم سبب هذا المنظور. فقد حولت العديد من القوى البرجوازيّة الصغيرة والقومية الرجعية المتعصبة، هذه المنطقة إلى ميدان للتنافس. حتّى أنّهم وصلوا إلى مرحلة يكسبون بها الرجال مقابل المال والسلاح. وكان أكبر ضرر تسبّبوا بها للمنطقة، هو أنّهم ربطوا قيمة النضال القومي والسياسي بالأرض. لكن الناس استاؤوا من هذين الطرفين، وطالبوا بحكمٍ قائمٍ مصالح الوطن.

كسبنا الأهالي إلى صفنا تدريجياً

أثمرت أعمالنا حتّى لو تدريجياً، وسمت قيمة نضالنا القومي في شخصية حزب العمال الكردستاني مجدداً، اُعتبر حزب العمال الكردستاني بديلاً عن التعصب القومي التقليدي، القيادة الرجعيّة والتنظيم القبلي، وبعد أن تعرّض الناس على حزب العمال الكردستاني قطعوا علاقاتهم بباقي الأطراف إلى حد كبير، وكان أسلوب حركتنا السريّة هو أكثر من طمأن القرويين. ولم نكن نلزم القرى في الظروف الصعبة، بل نتوجّه إليها عندما تكون الظروف مناسبة. وكان الناس ممتنين لنا بعد فهمهم لحركاتنا هذه.

لقد كسبنا محبة الناس تدريجياً، ولم نعد غريبين ينظران إلى بعضهما بشك، بل صديقين وفيين. وكنا نُعرف بينهم بـ “أصدقائنا”، أو بـ “الرفاق”، وهذا يطمئن الثائر ويريحه. وعندما كنا نقصد العائلات متعبين بعد مسير عدّة أيام، كانوا يستقبلوننا بحرارة، وينصتون إلينا بعناية. فكان هذا يزيل تعبنا كلّه وينسينا الصعوبات التي اعترضتنا دفعة واحدة.

وكانت معظم الأسئلة التي طرحها الناس علينا تتعلّق بالوحدة، الدعم الخارجي ورعاية العائلات خلال الحرب، وأدت الحروب الأهليّة والانقسامات المستمرّة في وطننا منذ قرون إلى اليأس من الوحدة. وكان الاعتقاد السائد آنذاك هو “هذا هو القدر، يجب ألّا يجتمع الكرد، فإن اجتمعوا سيتدمر العالم” وبغض النظر عن أنّ هذا الاعتقاد يعبّر عن التشاؤم والاستسلام، إلّا أنّه يكشف في الوقت ذاته عن حقيقة ما، كان أعداء الكردستانيين يدركون جيداً القوة التي سيملكها الكرد إذا اتّحدوا، لذا استخدموا آلية التقسيم لقرون، لتشتيتهم ومنع وحدتهم. هناك العديد من الأمثلة التي تكشف الحقيقة، في الماضي والحاضر أيضاً وهي لا تزال حاضرة في الذاكرة. ولأنّ العصبية القوميّة الرجعية خالية من معايير القوة الداخليّة، فهي ترضخ لرعاية الدولة في كل فرصة. وأدّت هذه العقلية التي يريدون غرسها في تفكير شعوب المنطقة، حالة من الشك وانعدام الثقة بالنفس، وصرفت أنظار الشعب عن النضال الملموس. وبالإضافة إلى ذلك، قصدت العديد من القوى المعروفة الأهالي وضموهم إلى تنظيماتهم بوعودهم وقيّدوا أسماءهم في سجلاتهم، ثمّ وقعت العديد من هذه السجلات بيد العدو. وبطبيعة الحال، تسبّبت هذه الحقيقة الملموسة بانعدام الثقة بين الناس. وبالأمس فقط، قدّم عمر جتين (PPKK) لائحة تضمّ أسماء 400 شخص للشرطة، وكذلك فعل KUK والحزب الإسلامي، وهذا جزء من أبرز الأمثلة على هذا، وقد عاملوا القرويين والبدو بنفس الطريقة، ولا تختلف أفعالهم هذه عن أفعال اللصوص، وقد وصل الأهالي لمرحلة لم يعودوا فيها يميزون بينهم، وسنفهم الوضع بشكل أفضل إذا استشهدنا ببعض الأمثلة. 

قطع الكوادر الذين أرسلتهم هذه القوى، طريق البدو، وسرقوا مواشيهم وقالوا بأنها “ملك للحزب”، وجعلوا الشبان يقسمون بالقرآن باسم الثورة. وارتكبت هذه الممارسات قبل عدّة أيام في قرية آفال في أروه أيضاً. فقد أعلن المدعو خورشو والمعروف بأنّه يمثّل (KUK) هناك، بإعلان حظر تجوّل ليلي، وعيّن عدداً من الشبان كحراس وارتكب ممارسات لا أخلاقيّة. وفي قرية رسينة، قام أحدهم بجمع الشبان بعد أن خدعهم بعقد اجتماعٍ لهم، وشغّلهم في تشييد مبناه، وعمل هذان الشخصان بعد انقلاب 12 أيلول، كعميلين للعدو، فالمدعو خورشو مثلاً كان عميلاً معروفاً في المنطقة، وأُعدم بطلبٍ شعبي من قبل أنصار (HRK) في شهر تشرين الثاني عام 1984.

لقد أخبرنا الأهالي بهذه الأحداث واحدةً تلو الأخرى، كانوا يقولون: “كنا نقول إنّهم بيشمركة وندعمهم، لكن هذا ما فعله هؤلاء بنا” ثمّ تخلّصوا من شكوكهم حيالنا شيئاً فشيئاً بعد تعرّفهم علينا، وقالوا لبعضهم: “هؤلاء مختلفون عن الجميع”. 

حقد كبير تجاه الخونة

لم يكن الحزب الذي يحدّد المشكلات الرئيسيّة التي تعترض طريق التحرّر الوطني وسبل الحل يواجه صعوبةً كبيرةً في إعلان أفكاره ونشرها، لأنّ المعطيات والوعي الذي اكتسبناه من حياة شعبنا كانت تؤكّد أقوالنا، فالأفكار المستمدّة من الحياة العمليّة والتي ظلّت مبعثرة حتّى ذلك اليوم، أخذت تنتظم وتتّضح بكلماتنا. وكان هناك وعي وحذر كبير من الخيانة على وجه الخصوص، كانوا قد وصلوا إلى نقطةٍ أصبح فيها الخونة أهدافاً رئيسيّة، فقد فاق حقدهم وكراهيتهم للخونة حقدهم وكراهيتهم للمحتلّين أنفسهم. إنّهم محقون إلى حدّ ما فلطالما سقطت حصوننا على مرّ التاريخ بسبب الخيانة. ومن الأسماء التي كان يذكرها الأهالي دائماً، سليمان آغا (تتار شرنخ) الذي فتح أبواب جبالنا للعدو، أمينة بريخان (رامنيان) التي أعدمت شقيقها المتمرد. علي خان تتار نجل سليمان آغا، الذي كان مستشاراً للقادة العسكريين للاحتلال. أحمد بريار الذي اعتقل رجلاً من الجنود وطلب الزواج من ابنته مقابل إطلاق سراحه، خلو حجي الذي كان يسيطر على الطرق كالعساكر، ويطالب الناس بدفع الإتاوات ويجعل الجنود يعتقلون من لا يدفع هذه الإتاوات، وكان يقول: “عدو الدولة عدوي أيضاً”. جاسم جاسم الذي كان هارباً من النظام العراقي فاستقبله أهالي المنطقة، لكنّه كافأهم باقتياد الجنود إلى القرى، وكان هؤلاء الجنود يعتدون على نساء هذه القرى، وكان القرويون يقولون لن يستطيع أحد التحرّك طالما هؤلاء في المنطقة، فلولا هؤلاء كيف كان العدو سيعلم طرقنا وكهوفنا ومنازلنا وأعداد أسلحتنا، وكان الأهالي يقولون، علينا قطع أذرع العدو (القضاء على جواسيسه لضمان حصولهم على أي معلومات) لنتمكّن من مهاجمته.

وأخيراً بدأ التخلّص من الخونة، ومع التخلّص من كلّ واحدٍ فيهم، كانت السلاسل والقيود تنكسر. وكانت الشجاعة المدفونة، والأفكار الخفية، والمشاعر المنكسرة تزهر من جديد وتنير الظلمات. لقد تخلّص الأهالي من المصائب تماماً، لكنّهم تواجهوا هذه المرّة مع ضابطٍ فاشي، وكان هذا الضابط يُعرف باسم (كارا بلا) البلاء الأسود، ومن أقواله “لدي أم واحدة وآلاف الآباء”، “الله في السماء، وأنا في الأرض” وكان يداهم القرى، ويسوق جميع نسائها إلى المقر، ويحتجزهنّ هناك لأيام، ويضع الأطفال الصغار في الماء البارد ويسألهم عن أسلحة آبائهم ويستمرّ بتعذيبهم. ويقول للعجائز اللواتي تخرجن من المسجد: “لا تصلّي لله بل لي” وكان يضرب الجنود الذين لا يضربون أهالي القرية بقوّة، بنفسه ويسوق النساء إلى مقرّه بعد تجريدهنّ من الملابس أمام الناس، ويلاحق الأهالي بالأسلحة. وفي النهاية بلغ استياء الأهالي وحقدهم عليه ذروته، فخرجوا ذات يومٍ وقالوا كفى وعاقبوا هذا الخثيث بالقتل.

كنّا نتّجه إلى عام 1984، ولم يكن الشتاء قاسياً لهذه الدرجة، لذا تقدّمنا قليلاً، ووصلنا إلى المناطق الداخليّة من البلاد، قيّمنا الوضع مع مجموعةٍ من الرفاق واتّجهنا غرباً، وكلّما سرنا باتجاه الغرب، كلما ابتعدنا عن جبالنا المغطاة بالثلوج وبقيت خلفنا، كنا نسير تحت المطر، واقتربنا من نهر دجلة، وكان نهر الحضارة الصامتة والمزدهرة يتدفق بهدوء، وكان يوجد على ضفاف النهر صخوراً ملساء أشبه بالجدران، حُفرت فيها الكهوف وبُنيت بداخلها القرى والمدن، تم بناؤها من آمد وحتّى الموصل وكأنها قافلة، وكان النهر  يسقي الأراضي الخصبة المحيطة، وتشكّل هذه المنطقة المهد الأوّل للحياة والحضارات، وتقع بين نهري دجلة والفرات. وكان قد تمّت حماية هذه المنطقة من الغزاة والمحتلين وتمّ الحفاظ على القيم الوطنيّة الطبيعيّة في هذا الحزام. كما أنّ الحدود التي تفصل بين الغرب والشرق والجبال والسهول، فصلت أيضاً بين المقاومة والخضوع.

تمّ كسب ثقة الشعب

كان علينا الانتظار بجانب الماء لفترة، وفي هذه الأثناء زرنا خيمة عائلة بدوية، كانت حياتهم مشتّتة وفوضويّة، كانوا يشربون المياه المخزنة في الأحواض مع حيواناتهم، ويطهون الطعام بذلك الماء ويستحمون بها أيضاً، وكان المطر قد ملأت مياه هذه الأحواض بالأتربة والروث، وتمتلئ بالديدان صيفاً. لم يكن البدو يبقون هناك صيفاً، لكنّ الرفاق الذين كانوا يبقون في المنطقة كانوا يضطرون لاستخدام هذه المياه، فلم يكن هناك مياه في الجبل خارج القرية. وأضرّت هذه المياه والجبن الخالي من الدسم ببنية هؤلاء الرفاق وصحتهم، فكانوا يعانون من الهزل والشحوب، لكنّ معنوياتهم لم تنكسر وبقوا أقوياء صامدين، وعلاقتهم مع الأهالي جيدة جداً. كانوا قد كسبوا ثقة الشعب، وأعتقد أنّ ذكر مثال على هذا هنا الآن هو عين الصواب. بينما يسير الرفيق كريم بايتار (جميل) والذي كانوا محبوباً لدى الأهالي، واستشهد على يد الخونة عام 1984، تبعته مجموعة من النساء البدويات حتّى وصلن إلى جانبه، فأراد إفساح الطريق لهن، فقلن له: “لا لا لنمشي معاً، سابقاً لم نكن نجرؤ السير هنا خوفاً من قطاع الطرق، وبصراحة خفنا منكم أيضاً في بداية مجيئكم، لكن لم نرَ منكم أي سوء مع أنّكم هنا منذ عام وأصبحنا نعتبركم الآن بمثابة أشقائنا وأبنائنا” لقد كانوا يعبّرون عن ثقتهم بالرفاق بهذه الطريقة، ويدلّ هذا المثال على أنّه تمّ اكتساب الثقة اللازمة من المحيطين. في الخيمة التي كنّا نجلس فيها، كانت إدارة المنزل بيد امرأة مسنّة، فقد كان زوجها مريضاً ولا يتدخّل بشيء، وعندما سألناها تقيّم أعمالنا، أجابتنا بسرد إحدى الحوادث. لقد سلبهم قاطع طريقٍ يُسمّى حمو أموالهم ومواشيهم بالقوّة، وحلّ قاطع الطريق هذا مع رجاله خلال أعياد رأس السنة كبلاءٍ على رؤوسهم، وساقوا شابةً أعجبتهم إلى قمة الجبل، وحتّى أنّهم في إحدى المرات قتلوا عروساً قاومتهم، وبعد مجيء الرفاق إلى المنطقة، لم يعد يجرؤ هذا البربري القدوم إليها، فازدادت ثقتهم بالرفاق، لكنّ إيمانهم بالاستقلال لم يكن قد تحقّق بعد.

 بقينا هناك حتّى المساء، ثمّ جاء الرفيق كريم واصطحبنا إلى الملجأ، وكان هناك في الملجأ رفاق آخرون، فكان المكان مزدحماً، وبعد أن تناقشنا حول السياسة، بدأنا بسرد أعمالنا التنظيمية وشرحها، وبحسب كلامهم، فقد شهدت استعدادات المقاومة تحقيق تطورات مهمّة، وتمّ توطيد علاقات الدعم في أجزاء عديدة من المنطقة، واستعدّ العديد من الشبان للحرب. وامتلأت المخازن بالمساعدات التي قدّمها الأهالي، وتمّ بناء الملاجئ في نقاط مختلفة، ودراسة التضاريس إلى حدّ كبير. وكانوا مستعدين وراغبين بالمقاومة، مع أهالي أروه بالتأكيد.

يُتبع..

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.